05 - 05 - 2025

صباحيات | واقعة مستفزة للانتباه وتدفعنا للتحرك

صباحيات | واقعة مستفزة للانتباه وتدفعنا للتحرك

استوقفني منشور كتبه الصديق العزيز خالد داود على صفحته على الفيسبوك يروي فيه واقعة حدثت من موظفة في إحدى سلاسل المقاهي المنتشرة في محطات البنزين في مصر، التي سألته عن ديانته مرة بسؤال عن اسمه الكامل، ومرة أخرى بسؤاله عما إذا كان احتفل مع المسيحيين بليلة رأس السنة. وبعد مناقشة قصيرة أقر بأن رأي الموظفة لم يتغير، الأمر الذي دعاه للتساؤل عما جرى؟ 

يبدو أن كثيراً من المثقفين والمشتغلين في العمل الحزبي غير منتبهين لما يجري في مصر في الأسابيع القليلة الماضية، وتحديداً بعد هروب بشار الأسد من سوريا وسيطرة هيئة تحرير الشام المدعومة من تركيا على السلطة هناك، ولم تكن هناك مناسبة لتمرير رسائل الإسلام السياسي أفضل من مناسبة الاحتفالات بعيد ميلاد السيد المسيح وبرأس السنة الميلادية، للتمييز بين المواطنين على أساس الدين، وهذه واحدة من الآليات التي تتبعها تلك التيارات من أجل الحشد السياسي، استناداً إلى خطاب ديني وتوظيف الدين في الصراع على السلطة، وهو خطاب تحتكره فصائل سياسية معروفة جيداً، ويغازلها بعض الأحزاب المسماة مدنية أو يدافع عنها بعض الشخصيات المحسوبة على الليبراليين الذين غلب اهتمامهم بالتخلص من نظام فاشي ووحشي على مسألة الوعي بخطورة النظام البديل وخطابه العام، غير منتبهين للهجوم المنظم والخطاب المغرض الذي تتبناه تلك التيارات.

لم يلتفت الأستاذ خالد داود على ما يبدو للنقاش الدائر على منصات التواصل الاجتماعي منذ أسبوعين والمتوقع تصاعده في الأيام القادمة مع قرب احتفال الكنائس الشرقية بميلاد السيد المسيح في السابع من يناير. وحسنا فعل الأستاذ خليل رزق خليل حينما خرج من متابعته بملاحظة مهمة في تعليقه الذي أشار فيه إلى أن "التحريض داير على تهنئة المسيحيين". وكتبت تعليقاً على هذا المنشور، لكنني رأيت أن التوسع فيه للتنبيه إلى خطورة ما يجري، وإلى ضرورة مناقشة هذه الواقعة على مستوى أكبر، وعلى نطاق أوسع، وبطريقة أكثر تنظيماً للتعامل مع تداعيات التغيير في سوريا على مصر، وتحديداً تداعياتها على مستقبل الأحزاب المدنية، ومن ورائها الحياة المدنية في وطننا الغالي. وما الموظفة سوى ضحية للفتاوي المستندة إلى تراث من الآراء الفقهية التي تكتسب قدسية، ربما تعلو قدسية النصوص الدينية المُنزَّلة في نظر كثير من محتكري الخطاب الديني، والتي يتم استدعاؤها واستحضارها وتوظيفها في التوقيت المناسب الممهد للتغيير المنشود. لذلك، حذرت من قبل، وأحذر الآن، من أي شعار يدعو للتغيير دون تحديد مضمون هذا التغيير أو وجهته. 

لا شك أن قوى الإسلام السياسي الطائفية والرجعية والمعادية "لمفهوم المواطنة" والتي يتوجه خطابها لطائفة من المواطنين استناداً إلى الانتماء الديني وإقصاء غيرهم من طوائف، واحتمال تبنيها لشعار التغيير، مسألة في منتهى الخطورة تستدعي منا وقفة والتفكير في آليات للمواجهة. من المؤسف، أن الخطاب الديني المضاد لما تروج له تيارات الإسلام السياسي هذه، خطاب متهافت وعاجز عن المواجهة لأنه يقف على الأرضية نفسها التي تنطلق منها رؤية تلك التيارات، والتي تتمثل في التراث الموضوع الذي يحجم رجال الدين الأكثر اعتدالاً عن نقده ومراجعته وتصحيحه، وحذف ما لا يصلح منه للوقت الحاضر، ولأنها تغالي في الدفاع عن وضع قائم وتعارض فكرة التغيير وضرورته، ومن المؤسف أيضاً أن التيارات المدنية تخشى الدخول في هذا المعترك لحسابات انتخابية مرتبطة بمزاج الناخبين وميولهم، ولحسابات سياسية لدى البعض متعلقة بتكرار خطأ التحالف مع مثل هذه التيارات، وتكرار ما ترتب على ذلك من مآسٍ. 

قبل أيام، استوقفتني أبضاً حادثة أخرى منشورة في إحدى الصحف حول سؤال عما إذا كانت الخادمة ملك يمين لصاحب البيت الذي تعمل وتقيم فيه؟ هذا السؤال تناوله قبل عقود أحد كبار المشايخ الذي كان يقدم برنامج فتاوى وأحكام في التلفزيون المصري، وكان السؤال الخادمة المتزوجة والمقيمة في منزل من تعمل على خدمتهم؟ هناك إجابات صادمة في كتب الفقه المتوارثة، أظن أن الشيخ الجليل عاد إليها ليصوغ رداً على السائلة، وصدمت حينها هي كذلك، طالما أن زوجها ارتضى لها هذا الوضع. الرد الفقهي الأحدث على الحادثة المعروفة إعلامية، والتي تفجرت حينما توجهت خادمة لإمام مسجد في أحد الكمبوندات الشهيرة تسأله عن حكم الشرع في علاقتها مع صاحب المنزل الذي تعمل فيه والذي أقنعها بأنها ملك يمينه شرعاً. اللافت في الرد هو الإقرار بهذا الحكم في كتب الفقه مع استدراك بأن هذا الحكم معطل الآن بسبب إلغاء منظومة الرق وما يرتبط بها.

فات على الشيخ المجتهد أمران: الأول، أنه لم يشرح للقراء والمتابعين كيف تم القضاء على الرق في العالم، ومن الذي ألغاه وما هو السياق الذي ألغي فيه الرق في كثير من دول المنطقة؟ وفات الشيخ أيضاً الإقرار بحقيقة أن بعض الدول التي تطبق الشريعة الإسلامية أو التي عادت إلى تطبيقها، عرفت أشكالاً شبه منظمة للرق، تدعمها مثل هذه الأحكام والفتاوى المنسوبة للشريعة والتي تتبنى نظرة قاصرة ورجعية للعلاقات الحميمية بين الرجل والمرأة، تختزل من خلالها دور المرأة في هذه العلاقة إلى أنها وسيلة لإمتاع الرجل، وما يرتبط بذلك من أحكام في قانون الأحوال الشخصية، لاسيما المرتبطة بنفقة المتعة؟ 

أنا لا أدخل، هنا، في نقاش شرعي أملاً في الخروج بفهم جديد أكثر انفتاحا وأقل رجعية لأحكام القرآن الكريم والشريعة، فهذه مهمة لا يقدر عليها شخص واحد وتتطلب إعدادا دراسياً منظماً ودور للمختصين من دارسي الفقه والشريعة، لكن أناقش الأمر من منظور العلم، وخصوصاً علم الاجتماع وعلم الإنسان اللذين يرصدان التطور في التنظيم الاجتماعي والعلاقات البشرية، وهو التطور الذي انتهى بالبشرية إلى تحريم الرق رسمياً، والذي يكافح الأشكال الأخرى والمعاصرة له والتي تندرج تحت عنوان "الاتجار في البشر"، وأناقشه أيضاٌ من منظور سياسي.

الحاجة إلى مراجعة فقه المعاملات وتجديده 

مثل هذا النقاش محفوف بمخاطر كبيرة، لارتباط موضوعه بأمور في الفقه قد يحتج بها بعض المدافعين عن الثبات والجمود، ظناً أو اعتقاداُ منهم، بأنهم يدافعون بذلك عن ثوابت الدين، والذين ينتزعون لأنفسهم اختصاصاً يتجاوز حدودهم بإصدار أحكام بتكفير المنتقدين لآرائهم، ويستندون إلى سلطة لا وجود لها في الديانة الإسلامية، باعترافهم هم بأنه "لا كهنوت في الإسلام"، وأن الاجتهاد والتدبر حق وواجب على كل مسلم، لكن ثمة اعتبارات سياسية واجتماعية تملي فتح مثل النقاش العام، في ضوء الحوادث الخاصة بأحكام الشرع المتعلقة بتهنئة غير المسلمين بأعيادهم، والتي ينقسم فيها الرأي استناداً إلى مرجعيات مختلفة في التراث الفقهي، وأؤكد هنا أنه تراث بشري يعبر عن فهم بشري لنصوص القرآن وما يُعد صحيحاً من الحديث، يجوز نقده ومراجعته وتصحيحه في ضوء تطور المعرفة وتطور المجتمعات البشرية وأنماط العيش. إن المطروح لإعادة النظر والتفكير هنا ليس حكم الشرع في شيء مبتدع أو اكتشاف أو اختراع حديث، وإن كان رأي بعض الفقهاء المتزمتين الرافضين الاستجابة للتطور الاجتماعي والبشري يقضي بأن "كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار"، إلا أن هناك فقهاء أكثر انفتاحاً وتحرراً في استخدام الأدوات التي استخدمها الفقهاء الأولون لاستنباط أحكام شرعية في كثير من الأمور لكن هذا الانفتاح والتحرر يعجز عن تقديم اجتهادات تساعد على تطوير فقه المعاملات الذي يشمل كثيراً من الأمور الحياتية والتي تؤثر على الحياة اليومية للناس، مثل الموقف من فوائد البنوك، التي تدفع كثيراً من المصارف والمؤسسات المالية إلى التحايل بابتكار خدمات خاصة للمعاملات الإسلامية، ومثل كثير من أحكام قوانين الأحوال الشخصية، خصوصاً في ضوء المادة الثالثة من الدستور، والتي توجد إشكالية خطيرة فيما يتعلق بمسألة القانون العام والمجال العام، والموقف من مسألة نقل الأعضاء وغيرها من أمور تمس أدق أمور الناس الحريصين على عدم مخالفة حكم الدين في سلوكهم العام والخاص.

لن اتحدث هنا، عن رؤية بعض التيارات والجماعات المنتمية لما يُعرف بالإسلام السياسي، الذي يٌشير إلى محاولة بعض تلك التيارات إلى استنباط أحكام تتصل بالسلوك السياسي وبالتنظيم السياسي للمجتمع من التراث الفقهي، فيصدرون أحكاماً تُحرّم الديمقراطية كآلية مستوردة ومخالفة لأحكام الشريعة، وتُحرّم الأحزاب السياسية لأسباب مماثلة وترفض قيم المواطنة التي تنظم العلاقة بين أبناء الوطن على أسس أخرى غير رابطة الدين، وما يرتبط بذلك من مسائل فقهية تتعلق بتولي المرأة لمناصب في القضاء أو في الحكم واتخاذ القرارات، وهي آراء تؤثر على كثير من الممارسات السياسية للمواطنين أو توجهها في اتجاه محدد على النحو الذي رأيناه في الاستفتاء على التعديلات الدستورية في مارس عام 2011، والتي أطلق عليها بعض مشايخ التيارات السلفية "غزوة الصناديق". الملاحظ أن مثل هذا الخطاب يزحف ببط ويتزايد وينتشر في المجتمع ويسعى للتأثير على الجمهور الأوسع تمهيداً لتصعيد الحملة من أجل الوصول إلى السلطة، مدعومة بالتحولات الجارية في سوريا، وهي حملة منظمة على الصعيدين الوطني والعالمي.

إن الموقف جد خطير ويستدعى وقفة واضحة وحاسمة من كل القوى الداعمة لمستقبل مدني ديمقراطي للوطن، والانتباه لتأثير مثل هذا الخطاب الاستبدادي والرجعي المتستر بالدين والذي يشكك في آراء رجال الدين في الأزهر والأوقاف وفيما يصدرونه من أحكام، في سياق الصراع لكسب مشروعية لخطابهم تعزز مساحات الشرعية التي يوسعونها لهذا الخطاب، مستغلين في ذلك تراجع الأزهر عن تبني وثيقة أعدها مثقفون وخبراء مصريون خاصة بحقوق المرأة، وهي الوثيقة الثالثة التي كان من المفترض أن تصدر عن هؤلاء المثقفين وقادة الرأي والخبراء الذين حرصوا على أن يكون الأزهر مظلة ومرجعية لحواراتهم من أجل المستقبل بعد ثورة يناير 2011، بل وفتور حماس الأزهر لدعم الوثيقتين الصادرتين بالفعل عن هذا النقاش، واللتين تُعدان خطوة مهمة على طريق بناء أسس وركائز الدولة المدنية والحديثة، ووضع أسس وركائز لحماية الحقوق الطبيعية والمكتسبة للأفراد والإقرار بموافقة الوثائق والعهود الدولية التي وقعت عليها مصر لجوهر أحكام الشريعة، والتي كان من الممكن أن تكون جزءاً من منظومة المبادئ فوق الدستورية، التي تشكل الإطار المرجعي للدستور، لارتباطها بمنظومة حقوق الإنسان. 

دافعي لفتح هذا النقاش، هو ضرورة الانتباه إلى أن أحد الآليات تتمثل في وضع قيود على الموضوعات التي يجري تناولها في النقاش العام ووضع سقف لمثل هذا النقاش بادعاء الدفاع عن الثوابت وحمايتها، وهو ادعاء يصيب مجتمعاتنا بالجمود الفكري والعقائدي، ويضعنا هذا في مسار مضاد للتطور والانفتاح على المستقبل والاستعداد له. لهذا السبب تحديداً رأيت أن من واجبي طرح هذه المشكلات للنقاش العام الذي أرجو أن يكون متواصلاً وبناء ومثمرا.
--------------------------
بقلم: أشرف راضي

مقالات اخرى للكاتب

رسائل انتخابات الصحفيين وأولويات مجلس النقابة في الفترة القادمة